الأمين العام للجماعة: في العصر الحاضر، أصبحت بعض التيارات الإسلامية، أكثر سهولة وتوازنا وضبطت سلوكها بسبب مواجهة الواقع

في الاجتماع الأخير للمجلس المركزي لجماعة الدعوة والإصلاح، أكد الأمين العام الأستاذ عبد الرحمن بيراني، على ضرورة فهم متغيرات العصر والحصول على خطاب ديني يتناسب مع الواقع.

وفيما يلي شرح تصريحات الأستاذ بيراني الأمين العام للجماعة:

بسم‌ الله الرّحمن الرّحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله واصحابه ومن والاه.               

أما بعد: سأبدأ كلمتي بالتأكيد على ضرورة الفهم الصحيح للحقائق والظروف التي تحكم الحياة وارتباطها الوثيق بمقاصد الشريعة.

نظراٌ لأن العصر الحالي في ظل التكنولوجيا والإنترنت والذكاء الاصطناعي هو عصر التغيرات والتطورات السريعة والمتعددة والعميقة، حيث طرأت تغيرات على العديد من الأعراف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الدينية ونتيجة لذلك، فإن تلك التيارات والأحزاب والمنظمات التي حددت رسالتها بالإصلاح، تواجه تحدياً خطيراً في فهم الواقع القائم وتكييفه ومراعاته في مجال العمل.
ومن الجدير بالذكر أنه لا يمكن فهم الحكم الشرعي والعمل به دون الالتفات إلى حقائق الحياة؛ لأن الوعي والفهم الصحيح لحقائق المجتمع وأحواله يعتبر من مقاصد الشرع، ولا يتم ذلك إلا في ضوء الفهم الدقيق والمتزامن للحقائق والأحوال الحاكمة للزمان والمكان من جهة والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة من جهة أخرى ومن خلاله إدراك الدين المطلوب وفضل الإسلام وعالميته وخلوده في جميع الأوقات والأماكن. 

ولذلك يرى العلماء والمفكرون المعاصرون أن الفهم الصحيح للقرآن والسنة يعتمد على فقه الواقع وفقه المتغيرات وكذلك العوامل المؤثرة (المحلية والإقليمية والعالمية)، ويعتقدون أن أهمية فهم الحقائق ومخاطر الجهل بالنصوص الدينية ستظهر بشكل أفضل عندما نعرف ونقبل أن "فهم الواقع وما یناسبه من حکم شرعي منزّل علیه، هو الواجب في الدين" أي أن فهم الحقائق والحكم الشرعي الذي ينزل عليها هو واجب ديني، وفي حالة الجهل بالحقائق الموجودة أو عدم إعطاء حكم شرعي مناسب لهذه الحقائق يوضع الحكم الشرعي للأسف في مكانه الخطأ.

وفي هذا السیاق یقول ابن تیمیه رحمه الله
"إن المجتهد والباحث الدیني إذا لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف احكام الله في عباده واذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عَبَد الله بغير علم كان ما يفسد اكثر مما يصلح" (مجموع الفتاوى 225 /22) 

ويقول الأستاذ أحمد راشد عن أهمية وضرورة فهم الحقائق فهما دقیقاً واستنباط الحكم الشرعي منها، خاصة في العصر الحاضر: 
"فهم الواقع أهم بكثير مما كان في القرون الاولى لان الحياة في كل جوانبها اصبحت معقدة، سواء فيما یخص الفقه العام كالافتاء في قضايا التامين والبورصات والشركات التي فيها من الدقائق مما لا یعرفه صاحب الافتاء الشرعي الا اذا اعانه خبير اقتصادي ومالي، او فيما يخص فقه الدعوة والسياسة اذا اختلطت المؤثرات العالمية والمحلية وتشابكت وتعددت انواع الاحزاب والقوى المتنافسة وصرنا نشهد صراع الخطط والاستراتيجيات المتعاكسة وکثیر منها خفي في عداد الأسرار" (اصول الافتاء والاجتهاد التطبيقي 2/68) 

ونظرا لأهمية الموضوع يرى الأستاذ أحمد راشد أن وجود مركز للدراسات ضروري لتقصي الواقع الوطني والإقليمي وتحليله بشكل دقيق شامل. ولذلك، ينبغي لنشطاء الإصلاح والمفكرين الدينيين، أن ينتبهوا جديًا للعوامل الخارجية التي تؤثر على تنظيم معايير القوة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي لها تأثيرات على المستوى المحلي والوطني والإقليمي والدولي والعالمي إلى جانب الفهم الصحيح والشامل للواقع القائم.

وبناء على ذلك، لا بد من الاعتراف بأن أهم رسالة المفكرين والفقهاء والباحثین القرآنیین والمصلحين الاجتماعيين في العصر الحالي هي خلق الانسجام والتناغم بين النص الشرعي والواقع المعيش، أو بشكل أدق، بين مبادئ الشريعة والمصالح الدنيوية، حتى تتبلور ديناميكية الدين وتوجيهه وقوته في الاستجابة لحاجات الزمان والمكان أكثر فأكثر، فيتمكن الناس من التمسك بالدين بوعيهم واختيارهم.

کما تعلمون أیها السادة الکرام أن واجب الحفاظ وتنظيم العلاقة الصحيحة بين المصالح والمبادئ هو مسؤولية المؤمنين والعارفين والمطلعين على نصوص القرآن والسنة والحقائق، بحيث لا توضع المصالح مكان المبادئ ولا يتم تجاهل الحقائق.

وفي هذا السياق يقول الدكتور سعد الكبيسي في كتابه "فاعلیة الإصلاح":

كل حزب أو اتجاه أو منظمة أو مؤسسة دينية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو خدمية توسع من قطعياتها وثوابتها الفكرية والعلمية فإنها تلقائيا سوف تقع في جملة من الإشكالات منها:
1- سوف تحرّم نفسها من التحديث والتطوير وتصحيح الخطإ الذي لا ينجو منه أحد في دائرة الاجتهاد الظني.
2- سوف تتجه نحو احتكار الحقيقة عندها فبذلك تدخل في عزلة من الآخرين وتحرم نفسها من الاحتكاك بهم والاستفادة منهم.
3- سوف تضيق دائرة المتغير والظني وما يسوغ فيه الخلاف في دائرة الإبداع المطلوب.
4- سوف يضيق أعضائها وأتباعها بها ذرعا من حيث تظن أن كثرة القطعيات تحمي الأعضاء من التفلت وفقدان الولاء.
وكما تعلمون، فإن بعض التيارات الإسلامية في العصر الحالي، نتيجة تعاملها مع الواقع، اتجهت تدريجياً إلى التيسير والتوازن والاعتدال في سلوكها نتيجة تعاملها مع الواقع وفي غضون ذلك، قامت جماعة الإخوان المسلمين بمراجعة بعض أفكارها السابقة فيما يتعلق بتعددية الأحزاب والأنشطة السياسية النسائية وتحمل المسؤوليات العامة.

وعلى هذا الأساس فإنه من المناسب لنا أن نولي اهتماماً جدياً بالملاحظة والتحليل والفهم الدقيق والشامل للواقع المحيط وما يحدث من تغيرات وتطورات، حتى نتمكن إن شاء الله من ضبط الاتجاهات المستقبلية و الأساليب مع أقل خطاء وأكثر نتیجة.